كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثاني تقصيرهم في فهم النصوص. فكم من حكم دل عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه. وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه، وإشارته وعرفه عند المخاطبين. فلم يفهموا من قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] ضربًا ولا سبًا ولا إهانة غير لفظة: أُفٍّ فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان الخطأ.
الثالث تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل. وليس عدم العلم علمًا بالعدم.
وقد تنازع الناس في الاستصحاب، ونحن نذكر أقسامه، ثم شرع رحمه الله يبين أقسام الاستصحاب، وقد ذكرنا بعضها في سورة براءة وجعلها هو رحمه الله ثلاثة أقسام، وأطال فيها الكلام.
والمعروف في الأصول أن الاستصحاب أربعة أقسام:
الأول استصحاب العدم الأصلي حتى يرد الناقل عنه وهو البراءة الأصلية والإباحة العقلية. كقولنا: الأصل براءة الذمة من الدين فلا تعمر بدين إلا بدليل ناقل عن الأصل يثبت ذلك. والأصل براءة الذمة من وجوب صوم شهر آخر غير رمضان فيلزم استصحاب هذا العدم حتى يرد ناقل عنه، وهكذا.
النوع الثاني استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه، كاستصحاب بقاء النكاح وبقاء الملك وبقاء شغل الذمة حتى يثبت خلافه.
الثالث استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع، والأكثر على أن هذا الأخير ليس بحجة. وهو رحمه الله يرى أنه حجة. وكلا الأولين حجة بلا خلاف في الجملة.
الرابع الاستصحاب المقلوب، وقد قدمنا إيضاحه وأمثلته في سورة التوبة.
الخطأ الرابع لهم هو اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على الباطل حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه. فأفسدوا بذلك كثيرًا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله. بناء على هذا الأصل وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشاعر أو نهى عنه. وهذا القول هو الصحيح. فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم. ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله. كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله: ولا دين إلا ما شرعه الله، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر. والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم. والفرق بينهما: أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله. فإن العبادة حقه على عباده، وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه. وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها، ولذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين: وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما لم يشرعه، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوًا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله. فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، وما سكت عنه فهو عفو. فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها، فإنه لا يجوز القول بتحريمها. فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال. فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه! وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها فقال: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34]، وقال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1]، وقال: {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]، وقال تعالى: {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} [البقرة: 177]، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2- 3]، وقال: {بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76]، وقال: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} [الأنفال: 58] وهذا كثير في القرآن.
وفي صحيح مسلم من حديث الأعمش عن عبدالله بن مُرَّةَ عن مسروق عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر» وفيه عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «من علامات المنافق ثلاث وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وأذا ائتُمِنَ خان» من حديث سعيد بن المسيب.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته فيقال: هذه غدرة فلان ابن فلان» وفيهما من حديث عقبة بن عامر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» وفي سنن أبي داود عن أبي رافع قال: بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته أُلْقِيَ في قلبي الإسلام فقلت: يا رسول الله والله إني لا أرجع إليهم أبدًا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أخِيسُ بالعهد، ولا أحبس البُردَ، ولَكِن ارجع إليهم فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع» قال: فذهبت ثم أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت.
وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حُسَيْلٌ فأخذنا كفار قريش قالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده. ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال: «انصَرِفا، نَفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم» إلى آخر كلامه رحمه الله في هذا المبحث. والمقصود عنده دلالة النصوص على الوفاء بالعهود والشروط، ومنع الإخلاف في ذلك، إلا ما دل عليه دليل خاص، وذلك واضح من النصوص التي ساقها كما ترى.
ثم بين رحمه الله أن المخالفين في ذلك يجيبون عن الحجج المذكورة تارة بنسخها، وتارة بتخصيصها ببعض العهود والشروط، وتارة بالقدح في سند ما يمكنهم القدح فيه، وتارة بمعارضتها بنصوص أخر، كقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط. كتاب الله أحق وشرط الله أوثق» وكقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد».
وكقوله تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} [البقرة: 229]. وأمثال ذلك في الكتاب والسنة. قال: وأجاب الجمهور عن ذلك بأن دعوى النسخ والتخصيص تحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه ولا دليل عليها، وبأ، القدح في بعضها لا يقدح في سائرها، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف وإن لم يكن عمدة لاعتضاده بالصحيح، وبأنها لا تعارض بينها وبين ما عارضوها به من النصوص.
ثم بين أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وما كان من شرط ليس في كتاب الله» أي في حكمه وشرعه، كقوله تعالى: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كتاب الله القصاص» في كسر السن. قال: فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له، فيكون باطلًا. فإذا كان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حكم بأن الولاء للمعتق، فشرط خلاف ذلك يكون شرطًا مخالفًا لحكم الله. ولَكِن أين في هذا: أن ما سكت عن تحريمه من العقود والشروط يكون باطلًا حرامًا، وتعدي حدود الله هو تحريم ما أحله، أو إباحة ما حرمه، أو إسقاط ما أوجبه لا إباحة ما سكت عنه، وعفا عنه، بل تحريمه هو نفس تعدي حدوده. إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
ثم بين رحمه الله: أن دلالة النصوص عامة في جميع الأحكام، إلا أن الناس يتفاوتون في ذلك تفاوتًا كثيرًا. وبين مسائل كثيرة مما فهم فيه بعض الحصابة من النصوص خلاف المراد.
قال: وقد أنكر النَّبي صلى الله عليه وسلم على عمر فهمه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله: «فإنَّكَ آتِيهِ ومُطَّوِّفٌ به» لا دلالة في هذا اللفظ على تعيين العام الذي يأتونه فيه.
وأنكر على عدي بن حاتم فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفس العقالين.
وأنكر على فهم من قوله: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردلة من كبر» شمول لفظه لحسن الثوب وحسن النعل. وأخبرهم أنه «بطر الحق وغمط الناس» وأنكر على من فهم من قوله: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» أنه كراهة الموت، وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب، فإنه حينئذ يكره لقاء الله والله يكره لقاءه. وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه.
وأنكر على عائشة إذ فهمت من قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] معارضته لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب» وبين لها أن الحساب اليسير هو العرض، أي حساب العرض لا حساب المناقشة.
وأنكر على من فهم من قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة، وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء. وبين أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم والحزن، والمرض والنصب، وغير ذلك من مصائبها، وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة.
وأنكر على من فهم من قوله تعالى: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] أنه ظلم النفس بالمعاصي، وبين أنه الشرك، وذكر قول لقمان لابنه: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وأوضح رحمه الله وجه ذلك بسياق القرآن.
قال: ثم سأله عمر بن الخطاب عن الكلالة وراجعه فيها مرارًا فقال: «يكفيك آية الصيف» واعترف عمر رضي الله عنه بأنه خفي عليه فهمها، وفهمها الصديق.
وقد نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية، ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تخمس. وفهم بعضهم أن النهي لكونها كانت حملة القوم وظهرهم. وفهم بعضهم أنه لكونها كانت جوال القرية. وفهم على بن أبي طالب رضي الله عنه وكبار الصحابة ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي وصرح بعلته لكونها رجسًا.
وفهمت المرأة من قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] جواز المغالاة في الصداق، فذكرته لعمر فاعترف به.
وفهم ابن عباس من قوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أن المرأة قد تلد لستة أشهر، ولم يفهمه عثمان فهم برجم امرأة ولدت لها، حتى ذكره ابن عباس فأقر به.
ولم يفهم عمر من قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقهم» قتال مانعي الزكاة، حتى بين له الصديق فأقر به.
وفهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ} [المائدة: 93] رفع الجناح عن الخمر، حتى بين له عمر أنه لا يتنا ول الخمر، ولو تأمل سياق الآية لهم المراد منها، فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعموه متقين له فيه، وذلك إنما يكون باجتناب ما حرمه من المطاعم. فالآية لا تتناول المحرم بوجه.
وقد فهم من فهم من قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] انغماس الرجل في العدو. حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة، بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضاة الله، وأن الإلقاء إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها.
وقال الصديق رضي الله عنه: أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها:
{يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} [المائدة: 105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بالعقاب من عنده» فأخبرهم أنهم يضعونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلاف ما أريد بها. وأشكل على ابن عباس أمر الفرقة الساكتة التي لم ترتكب ما نيت عنه من اليهود، هل عذبوا أو نجوا حتى بين له مولاه عكرمة دخولهم في الناجين دون المعذبين، وهذا هو الحق، لأنه سبحانه قال عن الساكتين. {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوما الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164] فأخبر أنهم أنكروا فعلهم وغضبوا عليهم، وإن لم يواجهوهم بالنهي، فقد واجههم به من أدى الواجب عنهم. فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، فلما قام به أولئك سقط عن الباقين فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم.
وأيضًا فإنه سبحانه إنما عذب الذين نسوا ما ذكروا به، وعتوا عما نهوا عنه، وهذا لا يتناول الساكتين قطعًا. فلما بين عكرمة لابن عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كساه برده وفرح به.